اللغة العربية غريبة في دارها

on Monday, October 15, 2012

لا يخفى أن اللغة العربية لغة الدين الإسلامي، لغة القرآن المجيد، لغة الحديث الشريف، لغة التدوين والتأليف في الإسلام، لغة التخاطب والتفاهم بين سائر المسلمين في الدنيا والآخرة، فهي الصلة بين الله تعالى وعباده وبين رسوله وأمته وبين شرعه وعباده، وبين الأوائل  والأواخر، وبين الغائبين والحاضرين.

وإحياؤها إحياء لتلك الصلة الكبرى والرابطة العظمى والحبل المتين، وإماتتها إماتة لتلك، وسعادة المسلمين منوطة بإحيائها لا من حيث كونها لغة قومية فقط ـ وحياة القومية بحياة لغتها وموتها بموتها ـ ولكن من حيث كونها لغة الدين، لغة الشريعة أيضا، إذ لا تتلقى هذه كما يجب إلا بإتقان تلك وتفهم أساليبها ومناهجها عند أئمتها وأمرائها.

و لهذا بذل علماء المسلمين وفطاحلهم في العصور الأولى عصور الرقي العقلي و النضوج العلمي و الأدبي جهودا هائلة في خدمتها، فقسموها إلى فنون شتى خصوها بالتدوين و التأليف، و قد أجادوا فيها، و بلغوا فيها غاية الضبط و الإتقان، ولكل في خدمتها وجهة هو موليها وناحية هو قاصدها , وكانت النتيجة أن أصبحت اللغة العربية لغة غنية بمفرداتها وبعلومها وبأساليبها.

فقامت لها أسواق رائجة في نوادي دمشق وبغداد وقرطبة والقيروان والقاهرة وتجاوبت أصداء الأدباء والشعراء والعلماء بين جدران سائر الممالك الإسلامية.

ثم بعد هذا الازدهار تولاها الإذواء والذبول إلى أن كادت تضمحل وتلك سنة الله في كل كائن حي ماديا كان أم أدبيا فمن دور التكون إلى دور الطفولية , إلى دور الشبيبة , إلى الكهولة , إلى الشيخوخة.. إلخ. لولا أن القرآن الكريم كان لها كالعمود الفقري من جسمها حافظا لها من التلاشي , وفي هذا الدور الأخير قيض الله لإحيائها وبعثها من جديد , رجالا من مصر والشام وتونس , فوفوها حقها من الخدمة والتدوين وهذبوها مما علق بها في دور تدنيها من الألفاظ الدخيلة , والأساليب الغريبة المهجورة , وفتحوا باب اشتقاقها لأسماء المستحدثات العصرية,فأعربوا بذلك أن اللغة العربية وسع صدرها لحمل الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها , فهي أولى وأجدر بحمل ما يلده كل عصر من غرائب الاختراع و الاكتشاف فقطعوا بهذا ألسنة الخراصين الذين يدعون أن اللغة العربية وإن كانت لغة الدين, فهي ليست لغة علم.

ولا ينكر ما فتح للغة العربية من خدماتهم هاته من الازدهار والنضوج ومن الاتساع و الانتشار ومجاراة اللغات الحية , ومسابقتها في مضمار الحياة.

فكما كان لتلك مدارسها ومجامعها ومعجماتها و نواديها ومجالاتها وجرائدها , فكذلك كانت لهذه وإن كانت بصور مصغرة.

فلو أن اللغة العربية وجدت ما وجدت اللغات الحية الأخرى من الدول الكبرى، والمساعدات العظيمة المادية والمعنوية على النمو و الانتشار، لأصبحت قي مقدمة اللغات الحية رواجا وانتشارا وثروة، ولكن هو الحظ يقوم تارة ويعثر مرارا، ولو لاقت تلك اللغات ما لاقته العربية من عناصر الوهن و الاضمحلال لماتت منذ زمان، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي جعل القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وهو عربي مبين ـ قد كتب للغة العربية الحياة و الخلود مادام قرآنه في أرضه، ولو كان الناس قاطبة بعضهم لبعض ظهيرا.

وكلما وهن عظمها وضعف حالها بعث الله من يجدد أمرها، وينفخ فيها من ذلك الكتاب الكريم وكلام حماته روح الحياة كما بعث أولئك الرجال في هذا العصر على إحيائها وإعلاء شأنها , ذلك هو حظها اليوم من أبنائها في الشرق. و ما هو حظها من أبنائها المسلمين الجزائريين يا ترى؟

إن حظها منهم عاثر وحالها بينهم حال غريب في داره , أمش معي أيها الأخ الكريم , وادخل المحال العمومية ولا سيما في العاصمة ,  المجتمعات والنوادي والمحتفلات والمقاهي , والمسارح وغيرها من الأماكن الأهلية اصغ جيدا لما تسمعه من المتخاطبين , فماذا تسمع هنالك يا ترى؟ تسمع رطانة غريبة وخليطا من اللغة لا هو عربي ولا بربري ولا فرنسي و إنما هو مزيج من العربية و البربرية والفرنسية، والعربية منه أقل الثلاثة مع ما هي عليه من التكسر و الإختزال.

و الأغرب من هذا أنك ترى كثيرا ما يقع إشكال بين المتخاطبين بالعربية فإذا  التجأوا إلى الفرنسية تفاهموا وزال الإشكال والكل عرب مسلمون. ومما يقضي بالدهشة والاستغراب أنك ترى متصاحبين عربيين مسلمين يتخاطبان باللغة الأجنبية كلغتهما الأصلية نابذين لغتهما ولغة أجدادهما ظهريا , ظنا منهم أن ذلك من مقتضيات التمدن الحديث , والتكلم بلغة الأجداد إنما هو تمسك بقشور بالية تنافي الرقي والتمدن الواجب احتذاؤهما وإن كان فيه إماتة المجد والشرف والعظمة القومية، والمغلوب يتقصى أثر الغالب ويقلده شبرا بشبر وذراعا بذراع, وإن كان في ذلك حتفه و هلاكه.

هذا شيء من حظ العربية من أبنائها الجزائريين , وذلك حظها من أبنائها في الشرق , والفرق كبير بين الحظين , هو كالفرق بين الحرية والعبودية , وبين العلم والجهل، وتلك الحالة الأسيفة نتيجة طبعية لأمور :

أولا: جهل المسلمين وإعراضهم عن العلم الصحيح وضعف تمسكهم بالدين الحنيف , ولو أنهم عضوا على دينهم بالنواجد , وأقبلوا على العلم الصحيح ونفروا من الجهل نفورهم من الفقر لكان للغة العربية بينهم مالها بين إخوانهم في الشرق من المكانة العليا و المنزلة الرفيعة.

ثانيا:  عدم رغبة الحكومة في وجودها والعمل على قتلها وإماتتها لأسرار تعلمها هي , فلو تركتها وشأنها ولم تصبها في مقاتلها بتقييد حرية نشرها  أو أنها نشطت سيرها وأنعشت روحها فجعلتها بجانب لغتها رسمية في الإدارات والمدارس وغيرها كما يقتضيه الإنصاف نحو الأغلبية الساحقة لكان لها شأن وأي شأن.

ثالثا : وهن القومية العربية و اندماجها في القومية البربرية وعدم اعتبار هذه للعربية بما يجب للإسلام من الاعتبار، وللوسيلة حكم المقصد فلو كانت للعنصرية العربية نعرتها على إحياء لغتها أو كان للعنصرية البربرية نحو اللغة العربية ما لها نحو الدين من التقدير و الاعتبار لقاموا جميعا ـ وهم كلهم مسلمون وهي لغتهم جميعا ـ بخدمات جليلة نحوها تجعلها في الجزائر كما هي في تونس.

و لكن لا إياس للعربية من أبنائها الجزائريين وقد لاحت منهم بوارق آمال نحو إحيائها في ربوعهم و أخذ يدب في عروقهم دبيب إحساسهم وشعورهم نحو إنعاش روحها.

و لئن لم يبد منهم نحو ذلك عمل مفيد جدي فقد أبدوا منهم من التألم و الشكوى من تلك الحال الأسيفة، و الشعور بالنقص أول مراتب الكمال، وما ظهور الجرائد العربية و تأسيس بعض النوادي إلا أثر من ذلك، و أول الغيث قطر ثم ينسكب.

إلى القارئ الكريم قطعة من خطاب شاب جزائري ألقاه بالفرنسية في حفلة تأسيس النادي العربي بباريس سابقا ليعلم به مبلغ التذمر من الجهل بلغتهم الأصلية وعدم اقتناعهم بما هم عليه من اللغة الأجنبية.

قال و قد أجال نظرة حزينة في إخوانه : كم يحزنني و يمزق نياط قلبي أن أكون عربي الأصل عربي النزعة فلا أستطيع أن أخاطبكم إلا بلغة الأجنبي و أن أستمع لخطبكم فلا أفهم منها إلا نبراتكم التي تهز جوانحي و أرى حماسكم فأكاد أطير جنونا بكم …إلخ.

About the author



View the Original article

0 comments: