الشطار والعيارين1

on Sunday, October 28, 2012


ابن حمدي
تواترت قصص كثيرة في نهاية القرن الرابع الهجري عن عدد من اللصوص وقطاع الطرق. سواء كانت في التراث الشعبي أو ألف ليلة وليلة، أو في كتب التاريخ. وكانت السمة الغالبة لهؤلاء اللصوص أنهم من الظرفاء، أصحاب مواقف وفتوة وشراسة وشجاعة، يترصدون القوافل القادمة إلى بغداد ويسطون عليها، لكنهم مع ذلك لا يتعرضون لإمرأة أو فقير. وكانوا يقيمون تجارة التجار، إن كانت أقل من حد معين لا يأخذون منها شيئاً، أو يستولون على نصفها، أو ينهبونها بالكامل. وفشلت محاولات الدولة في القبض عليهم أو حتى إبعادهم.

وكان أشهر اللصوص في القرن الرابع الهجري، هو حمدي أو ابن حمدي أو أحمد الدنف، هي أسماء متعددة لشخص واحد في الغالب. طبقت شهرته الآفاق، ولم تستطع الدولة العباسية ردعه. وربما يرجع الاختلاف في التسمية إلى اختلاف المصادر. فهو عند المؤرخيين ملقب بابن حمدي، وفي السير الشعبية ملقب بأحمد الدنف. وهو مثال نموذجي للص الشريف بشكله التقليدي، حيث كان يوزع ما ينهب من مال وتجارة على أتباعه الذين يتزايدون بشكل كبير، ويوزع منها على فقراء بغداد. مثلما كان يفعل روبين هوود في انجلترا بعده بقرون. ومن المنطقي أن تحمل السير الشعبية الكثير من المبالغات حول الرجل وأفعاله. لكن ما اتفق عليه العامة في سيرهم والمؤرخون في كتبهم أن ابن حمدي كان يعمل في صباه حمالاً في أسواق بغداد، وأنه ربما تعرض للكثير من الظلم الذي جعله يتحول إلى لص يسرق المارة والبيوت في بغداد. ثم تحول إلى قاطع طريق، يقيم في الطريق إلى بغداد ويعترض قوافل التجارة. ثم لسبب مجهول تحول من مجرد لص، إلى صاحب موقف اجتماعي: ينهب الأغنياء ويوزع على الفقراء. ومن الحقائق أيضاً أن الشرطة لم تستطع القبض عليه، وبعد فشلهم المتكرر في ذلك، منحوه الألقاب وطلبوا منه التعاون مع الشرطة . وكان هذا التعاون الغريب المريب يقضي بأن ينهب ابن حمدي القوافل كما يشاء على أن يؤدي للدولة مبلغ خمسة عشر ألف دينار كل شهر. وهو ما أثار دهشة المؤرخين والعامة في نفس الوقت. أن تتعاون الدولة مع لص وتقاسمه في غنائمه!!

الأكثر إثارة للدهشة هو رفض ابن حمدي لهذا العرض، واستمراره في نهب القوافل لأنه أحق بهذا المال هو ورجاله وفقراء بغداد من الدولة. وكان على الدولة أن تستخدم الغدر والحيلة للقضاء على ابن حمدي بعد أن رفض مقاسمتها في الغنائم. لكن موت ابن حمدي أو الدنف أياً كان اسمه، لم يضع حداً لظاهرة اللصوص الظرفاء، حيث اتفقت السير الشعبية والمصادر التاريخية على حقيقة أخرى، أن ابن حمدي هو أستاذ علي الزيبق أشهر الشطار والعيارين، وصاحب سيرة شعبية باسمه، تضمنتها ألف ليلة وليلة. كما كان ملهماً لكثير من اللصوص الأقل شهرة في مغادرة بغداد والترصد للقوافل ونهبها، لكن أحداً منهم لم يكن في شهرته هو وعلى الزيبق. حيث اقترنت هذه الأسماء بسرقة الأغنياء وتوزيع المال على الفقراء، وعدم اعتراض ضعيف، ومناصرة المظلوم ومعاداة الدولة.

لم تستطع الدولة العباسية القضاء على ظاهرة اللصوص الظرفاء لأنها لم تكن خياراً فردياً لأجمد الدنف أو على الزيبق، قدر ما كانت انتقام جماعي، وشكل من أشكال التمرد على الواقع الاجتماعي. كما كانت السير الشعبية التي تحتفي بهؤلاء اللصوص وتعتبرهم أبطالاً، رد فعل على الفقر والظلم والقهرالذي تعرض له الشعب في تلك الفترة، وتسجيل لما قد يخفيه التاريخ عن آحاد الناس الذين تحولوا إلى لصوص، لكنهم أحسوا بالفقراء وحاولوا مساعدتهم بالطريقة الوحيدة التي عرفوها في ذلك الزمن.



View the
Original article

0 comments: