تلعب اللغة دوراً شديد الأهمية في تشكيل الأقليات، ونحتاج إلى تعريف اللغة اعتماداً على آراء اللغويين الكبار أمثال ناعوم شوميسكي. وهناك إجماع من علماء اللغويات على أن اللغة هي نظام بشري من أجل التواصل. تستخدم فيها أصوات تصدر من أجهزة الصوت البشرية، لذلك يتفق علماء اللغويات في الوقت الراهن على أنها نشاط بشري محض. كما يمكن أن تشمل أي وسيلة من وسائل التواصل مثل الصرخات، الحركات، الشفرات، والإشارات وغيرها من أدوات التواصل الإنساني.
إذاً فاللغة نظام هدفه الأساسي هو التواصل بين البشر. كما كانت أحد عوامل قيام الحضارة الهامة. ويرى البعض أن هناك علاقة أساسية بين قيام الحضارة أو الوصول إليها وبين اختراع الأبجدية الصوتية أو ما يماثلها مثل الكتابة الهيروغليفية. لكن وعلى الرغم من هذا، تعتبر اللغة حاجزاً كبيراً يفصل الشعوب بعضها عن بعض إلى الحد الذي يوجد أقليات لغوية بالأساس عمل أصحابها على الحفاظ على لغاتهم بشتى الطرق حتى يحافظوا على هويتهم الثقافية. فاللغة عامل يعمل في اتجاهين متناقضين، أحدهما يقرب ويدمج والآخر يفرق ويبعد.
ولكن كيف تحولت اللغة أداة التواصل إلى عامل من عوامل الفرقة؟ قد نجد الإجابة في طبيعة اللغة ونشأتها. فلقد نشأت اللغة حينما لفظ الإنسان أصواتاً مركبة ذات مقاطع وكلمات متميزة للتعبير عن معاني. وهناك اختلاف كبيرـ لسنا بصدد مناقشته الآن ـ حول أسباب التنوع الكبير في اللغات الحية في العالم اليوم والتي تقدر بحوالي أربعة آلاف لغة. إذاً فهذا التنوع الهائل في اللغات وقف حائلاً ـ هو الآخر ـ دون تواصل البشر جميعاً بل تواطء مع الجغرافيا وعزل مجموعات بشرية كثيرة عن حركة التاريخ. وربما كان ذلك بسبب حفاظ اللغة على المنتج الخاص لمجموعة بعينها في إطار جغرافي محدد. وظلت المجموعات البشرية وحدات لغوية مغلقة على نفسها، في وقت كانت الترجمة فيه عملاً غير فعال في خلق عملية تواصل واسعة.
بل أكثر من هذا، أصبح الصراع اللغوي واحد من الصراعات الهامة في العصر الحديث، حيث ثارت معارك عنيفة حول اللغة الأم، وهل هناك لغة أسبق من الأخرى أو أكثر غنى في الجذور اللغوية. ومعنى هذا أنه لا يمكن أن نعزل اللغة عن مضامينها وتضميناتها الإجتماعية والتي يمكن أن تتمثل في جماعة ما جغرافية أو لغوية أو عرقية. فاللغة الكردية مثلاً والتي تنحدر من مجموعة اللغات الآرية هي العنصر الأساسي للتمايز بين الأكراد وباقي الشعوب المحيطة بها. وهنا تتضافر اللغة مع العوامل الجغرافية والإقتصادية والقبيلة في تفجير القضية الكردية. بل والأكثر من هذا، أن عامل اللغة كان المحرك الأكبر لظهور القومية الكردية. ومازالت اللغة النوبية حتى الآن تقف حائلاً بين أهل النوبة وبين الإنصهار في الحياة الثقافية المصرية. كما أن الحدود السياسية بين الولايات المتحدة والمكسيك هي الحدود الفاصلة بين المتحدثين باللغة الانجليزية والمتحدثين باللغة الأسبانية في المكسيك. ولقد دخلت اللغة حلبة الصراع في المشكلة البربرية، حيث يعتبر التمايز بين العرب والبربر ـ في المغرب العربي ـ عرقي بالأساس. إلا أن إحياء القومية العربية في مواجهة حركة الفرنسة في الجزائر، أثار حفيظة البربر فبدأت محاولات كثيرة ـ بمساعدة من فرنسا ـ لاحياء اللغة البربرية والتمسك بها كلغة قومية ـ على الأقل ـ على مستوى التعاملات اليومية. وهكذا تسهم اللغة في زيادة الهوة بين الجماعات البشرية وترسخ لفكرة الأقلية. وتكرس لنوع من الالتزام للعادات التي اتفق الأفراد على اخضاع سلوكهم لها. وهكذا صارت اللغة صيغة جديدة لبرج بابل حيث اختلط الحابل بالنابل.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment