شهد الربع الأول من القرن العشرين حالة من حالات الجدل السياسي والاجتماعي الموسع في الشرق، حول موضوع النهضة القادم للخروج من الأزمة التي تعيشها المجتمعات في ذلك الوقت، والأساس الذي يجب البناء عليه. وثار سؤال هل يجب الالتحاق بالغرب والاحتذاء به أم العودة إلى الماضي والجذور. كان الحديث عن المستقبل يشغل بال الجميع لكن سبل الوصول إليه اختلفت جذرياً من طرف إلى آخر
في ذلك الوقت عاد عدد كبير من الذين تعلموا في الغرب وتأثروا بالكثير من أفكاره، وشاهدوا هناك تجربة جديدة مختلفة عن ما عايشوه في بلادهم وأحدثت لهم صدمة حضارية. وكان من بين العائدين من أوروبا شيوخ من الأزهر، وقضاة، ورجال سياسة، وكتاب وأدباء. وكان الجدل الحقيقي يدور في مصر على صفحات الجرائد والكتب ثم عبر الإذاعة. حيث أن كبار مثقفي الشام يأتون إلى مصر هرباً من البطش العثماني أو من أجل البحث عن فرصة، وأصبحوا جزءاً من عملية العصف الذهني التي دارت في أوساط النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية. وفي الخلفية يوجد الاحتلال الانجليزي بقواته وتأثيره السياسي بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الأجانب خصوصاً اليونانيين والايطاليين.
النهضة العربية
كان الرأي الأقصى يطالب بالإنقطاع عن الجذور تماماً، واتباع النموذج الغربي كله بخيره وشره، والانتماء للمنظومة الثقافية والأوروبية. حتى أن بعض الغلاة من المفكرين قد طالب بعملية دمج جيني من خلال عمليات زواج واسعة وموجهة بين مصريين وأوروبيين، لإدخال الجينات الأوروبية إلى مصر. ومنهم من طالب بالتعامل باللغة الانجليزية بدلاً من اللغة العربية واعتبارها لغة رسمية للبلاد، أو كتابة الكلمات العربية بحروف لاتينية وذلك لمواكبة التطور التقني والمعرفي. بالإضافة إلى ظهور أصوات تطالب بتحرر المجتمع من قيود العصر القديم والانفتاح على المستقبل. وكانت هناك العديد من التجارب التي هزت المجتمع وأثرت في ثوابته الاجتماعية خصوصاً عن المرأة. فبعد أن شاركت أعداد كبيرة من النساء في ثورة 1919 وأسهمن بقوة في العمل الخيري والإنساني، تغيرت النظرة العامة للمرأة كظل تابع للرجل. وهو ما كان مثار جدال منذ مطلع القرن على يد قاسم أمين الذي طالب بإعادة النظر في وضع المرأة.
وعلى النقيض من ذلك ظهرت دعوات واسعة إلى العودة إلى العصر الذهبي لصدر الإسلام، وإعادة إنتاج التجربة في الواقع من جديد، وما يترتب على ذلك من قطيعة تامة وشاملة مع الغرب. وكان ذلك رد فعل لما شهدته مصر في ذلك الوقت من ما اعتبروه خروجاً على الأخلاق وروح الإسلام. فلقد شهدت مصر حالة من التردي الأخلاقي بسبب ارتفاع نسبة الفقر وتردي الأحوال الاقتصادية بسبب الحرب العالمية الأولى. كما كان العداء للانجليز كقوات احتلال محركاً للاستقطاب الديني الذي يربط السلطنة العثمانية بالماضي الإسلامي، ويربط الاحتلال البريطاني بالحروب الصليبية.
وبين الحدود القصوى من الطرفين، دار نقاش عاصف حول هوية مصر: هل هي عربية أم إسلامية أم فرعونية. وحاول كل صاحب رأي أن يحشد للأدلة التي تثبت وجهة نظره، ويشكل خطاباً يطرحه على الجماهير من خلال وسائل الاعلام. حتى أصبحت المعارك الفكرية والجدالات الثنائية سمة ذلك العصر. ولم تكن المعركة الفكرية تجري بمعزل عن الترتيبات السياسية وتوازنات القوى في ذلك الوقت. فقد كان الصراع بين الوفد والقصر محركاً للكثير من المعارك الفكرية، خصوصاً بعد إنهاء الخلافة في تركيا ومحاولة إعادة إحيائها في مصر، وتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين. وهو ما كان يخل بالتوازن القائم بين الملك والوفد. فثارت نقاشات أوسع عن شكل الحكم والعلاقة بين الحاكم والرعية منذ سقيفة بني ساعدة واختيار أول الخلفاء للرسول. ورغم مرور الزمن وتغير الأيام إلا أن نقاشات ذلك العصر لم تحسم بعد، كما أن الأسئلة المطروحة آنذاك، ما زالت تطرح وإن بصياغة جديدة.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment