حين يذكر مصطلح “أقلية” يتبادر إلى الذهن وبسرعة مدهشة مجموعة من المفردات والأفكار التي ترتبط شرطياً بهذا المصطلح، فنحن نربط دائماً بين الأقلية وبين التوتر، العنف، التمرد، القهر، إهدار الحقوق بكافة أنواعها، والقمع، والخضوع لضغط ما. وربما كانت المشاكل السياسية الراهنة التي تتعلق بالأقليات هي السبب المباشر لمثل هذا الارتباط الشرطي. ولقد سبب هذا غموضاً والتباساً كبيرين حول المصطلح. وربما غيرنا مفاهيمنا الأولية عن الأقليات، إذا عرفنا أن الجالية الأوروبية في كينيا ـ مثلاً ـ تعتبر نفسها أقلية مميزة ” قاهرة وليست مقهورة ” وتحتل قمة نظام إجتماعي واقتصادي يليها في هذا النظام الاجتماعي الأسيويون ـ الذي استوردهم الأوربيون للعمل في الأراضي الزراعية الشاسعة ـ والذين يعتبرون أنفسهم أقلية تترفع عن الاحتكاك بالغالبية من السود من سكان البلاد الأصليين. وهناك العديد من الأمثلة المشابهة والتي تدفعنا دفعاً للبحث عن تعريف دقيق لمصطلح “أقلية”
فالأقلية لغة من القلة وهي [مقابل الأكثرية] ويرى الدكتور الشافعي بشير أن الأقلية هي ” مجموعة من الأفراد داخل الدولة، تختلف عن الأغلبية من حيث الجنس أو العقيدة أو اللغة، فإعتبار شخص ما من الأقلية مسألة واقع يرجع فيها إلى العناصر الموضوعية ” ويعتقد د. سعد الدين إبراهيم أن الأقلية هي” أية مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحداً أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة “. لكن تعربف د. سعد الدين إبراهيم يبدو قاصراً حيث أن الثقافة هي الطريقة التي يتعامل من خلالها الفرد مع البيئة، وتتضمن بالطبع” اللغة والدين “. كما أهمل متغيرات أخرى تلعب دوراً هاماً في خلق وتشكيل الأقليات مثل العوامل التاريخية، والجغرافية، والإقتصادية. ومن ثم يمكن أن نعتبر أن الأقلية هي تمايز مجموعة من البشر في حيز معين عن من حولها من البشر ثقافياً “لغة ودين”، وجغرافياً، وتاريخياً، وإقتصادياً، ومن حيث السلامة البشرية.
كما يمكن ملاحظة إنقسام الأقليات إلى قسمين كبيرين:
1ـ أقليات قومية مثل النوبيين في مصر، والفرنسيين في كندا والألمان في البرازيل وشيلي. وهي أقليات تنسجم مع المحيطين بها مع الحفاظ على طابعها الثقافي والحضاري الخاص.
2ـ أقليات غير قومية وهي التي لم تنصهر بعد مع المحيطين بها. وهي قانعة بمركزها وامتيازاتها مثل الأرمن في سوريا وتركيا أو ساعين للإنفصال مثل الأقليات الألمانية في الدول المجاورة وكذلك الأقليات التي يضمها الإتحاد اليوغسلافي والأكراد في إيران وسوريا والعراق.
وربما كان من المفيد الأن استعراض عوامل التمايز ودورها في خلق الأقليات.
1ـ العامل الجغرافي
وهو الحيز المحدد “الحدود الطبيعية” والذي يحصر مجموعة من البشر ويسمهم بسمات مشتركة ذات طبيعة خاصة. ويعتبر العامل الجغرافي من أهم العوامل في تشكيل الأقليات، حيث نجد ارتباطاً كبيراً ـ إن لم يكن تاماً ـ بين ظهور الأقليات وبين سلاسل الجبال، والهضاب، والصحاري، ودلتا الأنهار. حيث تقف هذه الحدود الطبيعية الصارمة حائلاً ـ أو على الأقل عقبة ـ دون هضم الأقليات في كيانات أكبر، وعزلها بنسب متباينة عن السياقات التاريخية المحيطة. ويعزو جمال حمدان تأخر الوحدة القومية في ألمانيا إلى “اللاندسكيب الطبيعي الذي تقطعه الجبال والهضاب والغابات والمستنقعات إلى وحدات وأحواض وجيوب منفصلة لا تخلو من عزلة”. كما لعبت الجغرافيا دوراً خطيراً في حياة الأقلية الشيشانية حيث يلاحظ دارسوا جغرافية منطقة القفقاز “أنها بلاد جبلية في الأساس وسكانها جبليون نظراً لأن السلسلة العظيمة الوسطى من الجبال كان لها السيطرة والتأثير الأكبر على كل المظاهر الطبيعية الأخرى مما كان له دوره في اكساب السكان شخصية تتسم بالكثير من الشجاعة والصبر والتمرس على استمرار النضال” كما حافظت سلسلة جبال زاجروس على طابع قوي واحد للأكراد، رغم تشتتهم السياسي في أكثر من دولة. بل أكثر من هذا، وفرت الطبيعة الجبلية مظلة أمنية ضخمة وفرت الحماية للأكراد في مواجهة القوات العراقية التي حاولت إخضاع الأكراد لسلطة الحكومة المركزية في بغداد. وفي روسيا “كانت فجوات الغابة هي القوقعة التي تبرعمت فيها أمارات الروسيا” وكان الخروج من سيطرة الغابات الاستبسية هو الموحد الحقيقي لروسيا. كما كانت السكك الحديدية الموحد الحقيقي لألمانيا “حيث كان على وحدة ألمانيا أن تنتظر قدوم السكك الحديدية التي جمعت ما قد فرقت الجغرافيا والتاريخ” ويمكن أن نستنبط معادلة تتناسب فيها الجغرافيا وسطوتها تناسباً طردياً مع وجود الأقليات. كما لعبت الحروب قديماً والثورة التكنولوجية حديثاً دوراً خطيراً في تقليص دور الجغرافيا ولكنها لم تستطيع طمس عوامل أخرى صنعتها الجغرافيا قديماً.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment