الأقليات2

on Friday, November 23, 2012

العنصر الثاني الذي يسهم في تشكيل الأقليات هو التاريخ
يقول جمال حمدان أن “التاريخ هو معمل الجغرافي وهو كذلك مخزن الاستراتيجي الذي لا ينضب، وكل منهما يستمد منه خامته ويجري عليها تجاربه. وبالنسبة للجغرافي بالذات، فإن التاريخ إذا كرر نفسه ـ وهو قد يفعل ـ فهذا التكرار هو الجغرافيا”. ربما كانت هذه المقولة من المفاتيح الهامة لفهم التاريخ الذي يرصد أثر الجغرافيا على البشر. فلقد ضربت الجغرافيا حصاراً قوياً حول البشر، وفي محاولة حتمية لفك هذا الحصار فكر الإنسان في أنساق اجتماعية / سياسية تمنحه نوعاً من الحماية والأمان كما تمكنه من الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية المحيطة به. وربما كانت العائلة الأبوية “البطريركية” هي أول الأشكال التاريخية الفاعلة التي استطاعت توفير نوع من الحماية والأمان. وفيها يخضع الأبناء والأحفاد خضوعاً تاماً لتوجهات الأب الأكبر ومشوراته. لكن فكرة الدولة / الأب لم تصمد كثيراً في مواجهة عالم يتغير دائماً وجغرافياً مبشرة تغازل بإمكانياته خيال البشر، لذلك كان ظهور الدولة / القبيلة حتمية تاريخية. ومن المنطقي أن نعتقد أن نظام القبيلة هو إبن شرعي للنظام الأبوي الذي لم يكن ليستطع استيعاب الزيادة المطردة في عدد العائلة أو اندماج أكثر من عائلة واحدة. أياً كان الأمر، فلقد استبدلت القبيلة العائلة كما استبدل الشامان “الكاهن” دور الأب، حيث صارت له السلطتين الروحية والزمنية. ثم كانت التجمعات الأكبر التي نمت واستقرت في مكان واحد والتي كان سببها “التطور الحضاري وبالذات فيما يتعلق بنشأة الزراعة والعمليات التي أدت إلى قيام الحضارات الأولى” ولقد لعبت الزراعة دوراً خطيراً في حياة البشر حيث أن “إكتشاف الزراعة أدى إلى ظهور القرى التي لم تلبث بمرور الوقت وتكاثر السكان ونشأت المدن وظهرت الحاجة إلى الكتابة التي كانت بغير شك أحد متطلبات التنظيمات الإدارية المعقدة”. فكان أن نشأت الدولة المكونة من عدة قرى حول مدينة مركزية ثم تحولت إلى دولة كبيرة مكونة من عدة أقاليم، ثم الدولة الإمبراطورية التي تخطت الحدود الجغرافية. ولقد نتج عن هذا التطور، هرم بشري تتزايد قاعدته باطراد يجعل من الصعب بل من المستحيل أن تقوم قمة الهرم [السلطة الزمنية والروحية] بدورها المنتظر التي قامت من أجله النظم السياسية الإجتماعية. ولقد نتج عن هذا تفاوت كبير في حصول الفرد على حقوقه وأداء واجباته داخل المجتمع.
ولهذا[ راودت مخيلة البعض منذ أقدم العصور، صورة لنظام سياسي ينظر أفراده بعضهم إلى العض الآخر بوصفهم أنداداً سياسيين، يتمتعون جماعياً بسيادة واستقلالية]. إذا، نجم عن هذا التفاوت رغبة ملحة في الارتداد إلى نظم سياسية تتيح للفرد “كل فرد” نوعاً من الممارسة الفعلية في آليات اتخاذ القرار. فكان البحث “الارتداد” عن أصغر الوحدات السياسية الذي تؤمن هذه الرغبة. وبالطبع لم تعد العائلة أو القبيلة نموذجين صالحين في كل مناطق العالم. فكان أن ظهرت فكرة “البولس” الدولة ـ المدينة مرة أخرى ولكن بصيغ أخرى تحقق [التحول من فكرة ممارسة الحكم من قبل الأقلية إلى فكرة ممارسة الحكم من قبل الأكثرية]. وهكذا ظهرت الدولة المدنية والدولة الإقليم والدولة الإقليمية كأنساق أضيق نطاقاً وأكثر فعالية تعتمد على أقلية عددية نسبياً في حيز جغرافي ضيق وعلى أبعاد ثقافية في أجل توفير المتطلبات الفردية التي ضاعت في ظل الامبراطوريات المترهلة.
أما فيما يتعلق بالدولة القومية فالأمر جد متشابك. فلقد كانت الدولة القومية [نتاج انشطار ذاتي عن الامبراطوريات القديمة لتكوين وحدة سياسية جديدة]. إذا هي اتجاه نحو التشظي كما قلنا ولكنها في الوقت ذاته [التنظيم السياسي الشامل المعترف به بصرف النظر عن الحدود السياسية للدولة] وأن الدولة القومية [قد أضحت الفرد الشامل في التاريخ أو حسب قول هيجل الفرد الحقيقي الفاعل في التاريخ العالمي]. أي أن الدولة القومية قد تتخطى الحدود الجغرافية والسياسية ويضحي من أجلها الفرد بفرديته ويقبل أن يكون ضمن كيان ضخم هاضم. وهذا فبول لما رفضه من قبل، فلقد [أثبتت القومية مرة أخرى أنها أقوى من التحررية]. فهل هذا تناقض؟ سؤال يطرحه التاريخ بقوة ويجيب عليه أيضاً بوضوح قاطع “لا” ويقدم لنا التاريخ أيضاً الدرس واضحاً أن الإنسان ينتمي إلى أي نظام ويضحي من أجله شريطة أن يجد فيه مكاناً وأن يحقق هذا النظام متطلباته. كما يمكن أن نستنبط معادلة أخرى وهي أن هناك علاقة طردية بين الانكفاء على الذات داخل أقلية وبين غياب الأطر الديمقراطية التي يمثل فيها الفرد نيابياً و يعمل مباشرة على تكييف الواقع المحيط كما يطمح هو.

About the author



View the Original article

0 comments: