الله سبحانه وتعالي خلق الكون واحاط به علما، فعلم الله عن الكون المخلوق وعن كل الخلائق التي خلقها وبثها في الارض علم محيط لا يشبه علم الانسان المحدود. الانسان يعلم ما يعرف ويتعلم ويستطيع ان يفكر ويبدع ولكن له سقف وحدود. هو اكثر الكائنات جدلا ورفضا وتشككا، ولكن هذه صفة العاقل الواعي ، فالعقل المفكر لا يقبل بالمسلمات ولكن يفكر فيها ويبحث فيها حتي يقتنع ومن ثم يطمئن قلبه. لذلك كان الامام الكبير الغزالي يقول “لا اقلق علي المتشككين في ايمانهم لأنهم بتفكيرهم سيكونوا من الثابتين في ايمانهم، ولكني اخشي علي المسلم المستسلم لما يسمعه فقط فهو لا يفكر وهذا هو الخطر”. هذه نقطة..
الانسان بقدراته المحدودة قياسا بقدرات خالقه يجب ان يعلم ان علم الله المحيط والسابق علي وجود الخلائق في هذه الدنيا لا ينفصل ابدا ولا يتعارض مع حرية الانسان في الاختيار بين فعل الخير والشر، وطلاقة ارادته في الحياة. كيف؟ الانسان له مساحة في الضمير لا يطلع عليها احد وهي التي يحدث فيها حديث النفس للنفس، وفيها ما يضمره الانسان دون ان ينطق بما يعتمل في نفسه، وهي المساحة الشاسعة التي اذا اضمر فيها الانسان شرا لن يحاسبه الله الا اذا وقع الفعل، ويجازيه الله حسنات اضعاف مضاعفة اذا اضمر الخير حتي لو لم يفعله. وعدم التعارض يحدث لأن الله لم يجبرك كانسان علي فعل معين، ولكنه بعلمه الشامل والمحيط بالانفس وما تضمر فسبق بعلمه ان النفس هذه ستهفو الي الخير والخير فيها غالب، او هذه النفس خبيثة والشر فيها غالب. وفي كلتا الحالتين يؤتي الله عباده جميعا الفرصة للرجوع اليه والتوبة. ويبعث اليهم بالرسائل الربانية التي قد تأتي لانسان في رؤية او في محنة (المنحة في باطن المحنة) أو في صدمة نفسية تعيد الانسان لصوابه. وما يضمن للانسان حريته في الاختيار فعلا ان جعل الله التسيير فيما لا يحب الانسان بفطرته الانشغال به، فينطلق الانسان بعقله ونفسه وخياله ولا رقيب عليه الا الله ونفس لوامة اقسم بها الله في قرأنه الكريم. فالتسيير في عمل اجهزة الجسم واعضاءه مثلا تخيلوا لو كان للانسان مجال حر يتحكم به ويختار في كيفية عمل القلب والمخ والكبد!! أراد الله لنا ان ننشغل بتعمير الارض وتحقيق المعني الحقيقي للاستخلاف في الارض والانشغال بما هو للانسان اكثر اهمية واكثر قيمة. اختار الله لنا الاباء والامهات والاخوة والاخوات ولكنه افسح لنا المجال للاختيار في حسن او سوء معاملتهم، واختار الله ان يجعل في قلوب الامهات رحمة كبري للابناء فتخيلوا لو كانت هذه الرحمة باختيار الانسان!
خلاصة القول في مسألة الاختيار والاجبار للانسان في الدنيا ان الانسان مخير وعلي هذا يحاسب، ومسير فيما لا يحاسب عليه . والفارق كبير بين العلم المحدود الذي وصفه الله بنقطة في بحر كبير لا يفرغ ماءه ابدا وبين علم الخالق المحيط الاعلي والاعلم بعباده. الاحاطة تختلف كثيرا عن العلم فالانسان قد يعلم علاجا لالتهاب الكبد ولكن لا يحيط بالمرض وبالصحة المثالية مثلا ولذلك يظل الانسان في صراع مع الامراض في كل زمان ومكان. في الجزء القادم سنخوض في غمار مسألة جديدة ونستكمل هذه السلسلة التي اتمني ان تؤثر في قارئها وتدفعه للقراءة والتفكير والتأمل كثيرا.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment