جمال الدين الأفغاني
ظهر جمال الدين الأفعاني في الشرق، في لحظة حرجة وحاسمة من تاريخ التحول في المنطقة العربية والإسلامية. جاء الرجل من أقصى الشرق، ليجوب المنطقة من إيران إلى تركيا، والشام ومصر، ويسافر إلى روسيا وانجلترا، ويجالس الملوك والأمراء وأصحاب الفكر. كانت السمات الشخصية والفكرية للرجل على درجة عالية من النضج لدرجة أن يجتمع بالغالبية العظمى من أعلام عصره، ويؤثر في جيل قادم. وكان حديثه يدور حول الإصلاح والنهضة. فهو بالطبع لم يكن سعيداً لحال الدول العربية والإسلامية في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه علامات التحلل على الإمبراطورية العثمانية: شيخ أوروبا المريض. والتي عجزت عن إدارة الأمور، أو إدارة الصراع في المنطقة، ضد الغزو الانجليزي والفرنسي، والأطماع الأوروبية في المنطقة.
وكان الأفغاني يرى أن الفوارق القومية أو المذهبية لا يجب أن تقف عائقاً في وجه الوحدة والتطور، وبد أنه يحمل طرحاً غير محدد المعالم في ذلك الوقت عن الجامعة الإسلامية. فهو من أفغانستان الحالية، عاش في الهند، وتعلم في النجف الأشرف، وقضى وقتاً في إيران. وأطلع على أحوال الخلافة وأدرك ما ستؤول إليه في وقت قريب. أي أنه مسح المنطقة من أقصاها إلى أقصاها كما يقولون. ولم كن بالزائر العابر الذي يلقي نظرة خاطفة ويرحل . بل كان يعايش أحوال البلد الذي يقيم به، ويطلع على ثقافته ومعارفه بالإضافة إلى أحواله المعيشية.
وكثيراً ما تعرض الأفغاني للطرد، أو النفي، بعد حديثه مع قيصر روسيا، أخبره القيصر أنه غير مرغوب به. وفي مصر كان مصدراً للمشاكل، ولم يختلف الأمر كثيراً في تركيا. حيث كان الخطاب الذي يطرحه مزعجاً للأمراء والسلاطين، الذين كانوا يرحبون به في البداية ويكتشوف أن ما يسعى إليه من تطوير وتحديث للقواعد السياسية كمقدمة لنهضة شاملة لن يخدم مصالحهم، وقد يزلزل عروشهم.
ويبدو أن الرجل كان حركياً أكثر من كونه مفكر وكاتب. فلم يخلف تراثاً نظرياً يذكر، بينما أخباره وأسفاره ومقولاته وحواراته ونقاشاته تملأ الكتب والسير. فلا نجد كتاباً يتحدث عن تلك الفترة من التاريخ دون ذكر للأفغاني الذي حاز قبولاً وأعترافاً ببلاغته وقدرته على التأثير وبراعته في الحوار. شهادات كثيرة تجعلنا نعتقد أن الرجل فضل الحركة على الكتابة. وأن مشروعه كان واضحاً في رأسه لدرجة لا تحتاج إلى تسجيل، وهو ما تسبب بعد ذلك في الطعن عليه. فقد تعرض الرجل إلى الهجوم ومحاولة التصفية التاريخية، واتهامه بأنه كان عميلاً للغرب، أو أنه ينتمي إلى المحفل الماسوني ويسعى إلى تدمير العالم الإسلامي!! وبالطبع لم تلصق تلك الاتهامات التافهة بالرجل، حيث كان تضمن حملة لتشويهه.
فحيث وجد جمال الدين الأفغاني، ظهر حديث عن التمرد ورفض الواقع والدعوة إلى التغيير، ولم يظهر أحد من آباء التنوير في المنطقة العربية لم يتأثر به وينقل عنه أو يحضر دروسه أويعتبره المعلم الأستاذ. إن نظرة على قائمة من حضروا جلساته في مصر تعبر دليلاً كافيا على قدرته على التغيير السياسي وزرع بذور التغيير. كما كانت جريدته التي أصدرها في باريس ” العروة الوثقى ” منبراً قوي التأثير في الأمة العربية والإسلامية، ولا عجب أن تصادر أعدادها وتمنع من دخول الدول الإسلامية، لأنها كانت تمثل صرخة تحذير من الواقع السيء، ودعوة تمرد من أجل تجاوز الماضي واستقبال المستقبل.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment