في مقال سابق تحدثنا عن حضارات العرب قبل الاسلام وكيف كانوا اهل حضارة ولم يكونوا جاهليين كما نصفهم احتقارا وتهوينا لحالهم ونصفهم حتي الان بأنهم اهل البادية والصحراء، اصحاب الخيم والجمال والجبال ولا يعرفون من حضارة البشر والتمدن الا القشور. لا ينطق من يقول هذه الترهات الا عن جهل مطبق لا يقارنه جهل، فأنت بجرة قلم تحطم سنين بل عشرات السنين كان لهؤلاء الاقوام حضارة وسياسة وفن وشعر وتجارة ورحلات ودونوا ما كانوا يقولون ويؤلفون، وكانوا اهل رواية واخبار وكان تحري الصدق في اخبارهم علي اعلي قدر من الدقة الشديدة، وفي ذلك حكمة سنفهم مقدارها عندما هبط الوحي علي النبي الكريم سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. فكروا معي ماذا يكون الحال عندما يهبط وحيا بكتاب الله علي نبي امي من امة اتقنت اللغة وبرعت فيها بدرجة غير مسبوقة ويكفيك نظرة علي اشعارهم لتعلم عن من نتحدث، وفي نفس الوقت يهبط الوحي علي نبي ينتمي لاهل رواة للحديث المنقول عبر اجيال واجيال ويراعون تحري صدق الخبر قدر الاستطاعة وكان يكفيهم شك واحد في فرد واحد من سلسلة رواة لخبر واحد ان ينفوه ويكذبوا الخبر، فكان الخبر الذي يصدقون عليه تعلم انهم تحروا صدقه وحفظوه حفظا عظيما من الهوي والخطأ. فقدر الله واختار ان يكون القرأن يهبط ويستقر بقلوب وصدور هؤلاء القوم وكان مقدرا لحفظهم له وحفاظهم علي نشره وتبشير العالم وتعليمه بما جاء فيه، وهذا ماحدث فعلا.
سنخصص المقال هذا في الحديث عن انظمة الحكم التي عرفها العرب قبل الاسلام، وخاصة سنخصص الحديث عن القيمة السياسية والاقتصادية والفنية لقريش، وعن حجمها التاريخي وتأثيرها ونفوذها بين عرب الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام، هذا بالقطع سيفيدكم في معرفة كيف يقدر الله المقادير وكيف تكون حكمته اعمق مما نتخيل بكثير.
قريش تعتبر في مركز القلب للمناطق المأهولة بالناس في ذلك الوقت. كانت المركز الثقافي والديني حيث كان يحج اليها المئات والالاف من البشر من كل انحاء الجزيرة العربية لزيارة مكة والتبرك باصنامها المعبودة، والتجارة وتبادل وشراء السلع في اسواقها التجارية الشهيرة، وكان في نفس الوقت يأتيها الشعراء والادباء من كل حدب وصوب في ارض الجزيرة العربية ليلتقوا في سوق عكاظ الذي كان يقام في ارض قريش لتدور فيه نقاشات المثقفون وجولات القاء الشعر وكان سوق عكاظ يجمع عددا من اعظم الشعراء في ذلك الوقت، وكل شاعر يكون منتهي طموحه ان يسمعه عرب قريش وتعلق قصائده علي سترة الكعبة وتصبح من المعلقات، والمعلقات اشبه ما يكون في وقتنا الحالي بنشر القصيدة الشعرية علي صفحة من صفحات الانترنت واسع الانتشار او علي صفحة من صفحات الفيس بوك فيقرأها كثير من الناس، فكان اهل قريش يختارون الكعبة بارتفاعها وعظمتها وقدسيتها التي في نفوس العرب جميعا ليعلقوا علي جدرانها صحائف طويلة مكتوب عليها اشعار الشعراء الكبار فيراها ويقرأها كل الزوار.
وكان العرب سياسيون بطبيعة التقائهم بقوافل التجارة الوافدة من الخارج، وبحكم وفودهم التجارية التي كانوا يتجهون بها شمالا الي الشام وجنوبا الي اليمن، فنقلوا عن اهل هذه البلاد كل اشكال انظمة الحكم التي عرفتها البشرية في ذلك الوقت من نظام الامارة التي ينفرد فيها الحاكم الامير بكل السلطات، لنظام الحكم الاميري الذي يعين له نائب يتولي اغلب السلطات الداخلية مستعينا بعدد من المستشارين ويختص فيها الامير نفسه باعلان الحرب وبعض الامور الرئيسية، وعرف العرب ايضا نظام الحكم الذي يشبه نظام الحماية الذي طبقه الاوروبيين في بلادنا في القرن التاسع عشر الميلادي وعرفه البشر قديما قبل الميلاد وهو اعتماد مجموعة من البلدان الصغيرة علي امارة كبيرة قوية وجيشها في الحماية والامن.
View the Original article
0 comments:
Post a Comment